الجمعة، 30 نوفمبر 2018

قصيدة : [ عَبَق الذِّكْرى ]

ودِّعْ هوى الغيدِ ، مِن هندٍ ، وفاطمةٍ * ومِن سعادٍ ، وأطفئ لوعةَ القلَمِ
واسكُب شرابَكَ ، واهجُر عُودَ غانيةٍ * واترُكْ محافلَ أهلِ النّاي والنَّغَمِ
واسلمْ مِن الحُبِّ ، إنّ الحبَّ ظاهرُهُ * شهدٌ ، وباطنُهُ يُفضي إلى السَّقَمِ
وارحل عن الليل ، فالظلماءُ قاتلةٌ * لمن يُحِبُّ ، وما في النّورِ مِن حَرَمِ
فأين تذهبُ يا مسكينُ مِن قَدَرٍ * وأينَ تهربُ ممّا خُطَّ مِن قِدَمِ
أمامَكَ البحرُ ، والأمواجُ عاتيةٌ * وخلفكَ النارُ تُصْلى مِن لظى الحِمَمِ
وفوقكَ الرّعدُ ، والأمطارُ عاصفةٌ * والأرضُ تسقط في داجٍ من الظُّلَمِ
وأنتَ قلبُكَ في أشواقه ثَمِلٌ * فكنتَ عن هذه الأهوالِ في صَمَمِ
حتّى أَفَقْتَ على همٍّ بلا أمَلٍ * وكدتَّ تَقْضي من الأحزانِ ، والألَمِ
هذا هو الحبُّ ، مَن يحياهُ مُفتَقَدٌ * ومَنْ يَراهُ ولو رَأْيَ المنامِ عَمِيْ
فاصرفه عنكَ ، سوى حُبٍّ تلوذُ به * عند الإله ، وترجو جنّةَ النّعَمِ
وأيُّهُ بعد حُبِّ اللهِ ، مفترَضٌ * إلا محبةُ خير الخلق كلّهمِ !
فاخشعْ هنا ، واطْرح الدّنيا بأجمعها * هنا الهوى ، وهنا حُبٌّ بلا ندَمِ
واهًا على كبِدٍ حَرَّى لفُرقَتِهِ * صار الوجودُ بها لا شيءَ ، كالعَدَمِ
واهًا على العَيشِ ، مُرٌّ في مذاقَتِهِ * واهًا على القَلْب ، مِن بَعْدِ الرّسولِ ظَمِيْ
الدّارُ ، ما الدار ! ، والأحبابُ قد رحلوا * والعَينُ تَحْنو لذِكْراهم بمُنسَجِمِ
والرُّوحُ ، ما الرُّوحُ ! والأحشاءُ مُضرَمَةٌ * بالشّوقِ ، والشوق يُذْكي روحَ مضطرمِ
ماتَ الرّسولُ ، ووارى التُّرب مُهجَتَهُ * والأرضُ مُذ فارقَتْها الشّمسُ في العَتَمِ
ولو رأيتَ قلوبَ الصّحْبِ لانتفَضَت * منكَ الضّلوعُ ، بكَسْرٍ غير ملتئمِ
الحزنُ خيّم فينا غيرَ مرتحِلٍ * والقلبُ أقسمَ : أنّي غيرُ مبتسِمِ
ويُذهبُ الحُزنَ أن تقفو مسيرتَهُ * وتَتْبَعَ الحُكْمَ في لاءٍ وفي نَعَمِ
وتُكثرَ الذِّكْرَ للمحبوبِ مشتملًا * عباءةَ الوَصل في الأفعالِ والكَلِمِ
فامدحه غيرَ مغالٍ في مدائحِهِ * واحذر تنقُّصَ منقوصٍ ومتَّهَمِ
هو الذي قد أضاءَ الكونَ مولدُهُ * وعادت الرّوحُ بعد الموت للنَّسَمِ
وأينعَ الجَدْبُ مِن غَيثٍ يجودُ بهِ * كما روى غيثُهُ المِدرارُ كلَّ فمِ
وَجْهٌ صبوحٌ ، كأنّ البدرَ طَلْعَتُهْ * فيهِ ، وفي كفّهِ هطّالةُ الدّيَمِ
المرءُ يأتي صغيرًا ثمّ في صُعُدٍ * يكونُ ، إلّاهُ مذ قد كان في عِظَمِ
فحسبُهُ أنّه خيرُ الورى نسَبًا * وأنّهُ الرّحمةُ المهداةُ للأُمَمِ
وأنّه يومَ حشر الخلق سيّدُهمْ * فقَدْرُهُ في ابتداءٍ مثلُ مُختَتَمِ
إن قيل : بَعْثَتُه العُلْيا ، فمولدُهُ * لولاهُ ما كانَ بَعْثُ السيّد العلَمِ
يا مولدَ المصطفى ، قد جئتَ تكرمةً * للخلْقِ ، تبصرةً للعاقلِ الفَهِمِ
في عِطْفِهِ قد تراءى عِزُّ أمّتِهِ * فصُدَّ أبرهةٌ بالطّير والنِّقَمِ
في حَمْلهِ ظهَرَتْ للأمّ رحمتُهُ * والذلُّ لوّحَ في كسرى وفي صنَمِ
ماذا نُسَمّيهِ ، جاؤوا جدَّهُ فرأى * حمدًا له غيرَ مجذوذٍ ومنصرمِ
مُحَمَّدٌ ، هكذا سمّاهُ خالقُهُ * وصانَهُ قبْلُ في الدّنيا فلَم يُرَمِ
مِن أجلهِ ، مُعجزاتُ اللهِ تتبَعُهُ * فإنّها أصبحَت مِن جُملةِ الحَشَمِ
قد قام يدعو بلا يأسٍ ، ولا كلَلٍ * وكيف ييأسُ قلبٌ فائقُ الهِمَمِ
وقال : إنّي رسولُ الله ، فاعتصموا * بالدّينِ ، فالدينُ منجاةٌ لمعتَصِمِ
أحيا بدعوتِهِ أرواحَ مَن قُبِروا * في الجهْلِ ، يَمْنعُهمْ عن مرتَعٍ وَخِمِ
يذودُ رفقًا ، وسيفُ الحقِّ في يدِهِ * إذا أراد انحسامَ الشّرِ يَنحسمِ
واسأل بِبَدرٍ أبا جهلٍ ، ومَن معهُ * قد حذّروهُ ، وقيل : ارجِع أبا الحكَمِ
فقادَهم نحو ذلِّ الدهر ، منتشيًا * بخمرة الزّهو ، حتّى سيقَ كالنَّعَمِ
وجيشُهُ كُسِرَتْ في الأرض هيبتُهُ * فمن يشاقق نبيَّ الله ينهزِمِ
والرّيحُ حين أتى الأحزابُ ، مُرْسَلةٌ * كأنّها الرّمحُ مِن كفِّ الرسول رُمي
فأُلقيَ الرُّعبُ في أحشاءِ سادتهم * كما تطايرت الأوتادُ من خِيَمِ
بالأمس هاجَرَ عن قومٍ وعن وطَنٍ * واليوم أقبلَ في عزٍّ وفي شَمَمِ
فاللهُ أكبر ، هذا يومُ مرحمَةٍ * والعفو مِن شأْن أهلِ الفضلِ والشّيَمِ
عفا ، ولو شاءَ جُزَّت كلُّ ناصيةٍ * وسالت الأرضُ مِن أشلائهم بِدَمِ
ما الفتح إلا بيانٌ أنّ رحمتَهُ * قرينةٌ لاقتدارٍ ، ما يَدُمْ تَدُمِ
فصلِّ دومًا ، وسلّم ما حييتَ على * ذي القَدْر ، والعِزِّ ، والإقدامِ ، والكَرَمِ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

نظم مسائل في أحوال الهمزة

لتحميل النظم , اضغط هنا